سورة القمر - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: «انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّتين، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اشْهَدوا» وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ، منهم عبد الله بن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعلى هذا جميع المفسرين، إلاّ أن قوماً شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: {وانْشَقَّ} لفظ ماض، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجوداً. وفي قوله: {وإن يَروا آيةً يُعْرضوا} دليل على أنه قد كان ذلك.
ومعنى {اقْتَربَت}: دنَتْ؛ و{الساعةُ} القيامة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشقَّ القمر واقتربت الساعة. وقال مجاهد: انشقَّ القمر فصار فِرقتين، فثبتت فِرقة، وذهبت فِرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد: لمّا انشقَّ القمر كان يُرى نصفُه على قُعيَقِعَانَ، والنصف الآخر على أبي قُبيس. قال ابن مسعود: لمّا انشقَّ القمر قالت قريش: سحركم ابن أَبي كبشة، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل اللهُ عز وجل: {اقتربتِ السّاعةُ وانشَقَّ القمر}.
قوله تعالى: {وإنْ يروا آيةً} أي: آية تدُلُّهم على صدق الرسول، والمراد بها هاهنا: انشقاق القمر {يُعْرضوا} عن التصديق {ويقولوا سِحْرٌ مستمرٌّ} فيه ثلاثة أَقوال.
أحدها: ذاهبٌ، من قولهم: مَرَّ الشيءُ واستمرَّ: إذا ذهب، قاله مجاهد، وقتادة، والكسائي، والفراء؛ فعلى هذا يكون المعنى: هذا سِحر، والسِّحر يذهب ولا يثبت.
والثاني: شديدٌ قويٌّ، قاله أبو العالية، والضحاك، وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من المِرَّة، والمِرَّة: الفَتْل.
والثالث: دائمٌ، حكاه الزجّاج.
قوله تعالى: {وكذَّبوا} يعني كذَّبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قُدرة الله تعالى {واتَّبَعوا أَهواءَهم} ما زيَّن لهم الشيطانُ {وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أن كُلَّ أمْر مستقِرٌّ بأهله، فالخير يستقِرُّ بأهل الخير، والشر يستقِرُّ بأهل الشر، قاله قتادة.
والثاني: لكل حديثٍ مُنتهىً وحقيقةٌ، قاله مقاتل.
والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقِرّ، وقرار تصديق المصدِّقين مستقِرّ حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب، قاله الفراء.
قوله تعالى: {ولقد جاءهم} يعني أهل مكة {مِنَ الأنباء} أي: من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآن {ما فيه مُزْدَجَرٌ} قال ابن قتيبة: أي: مُتَّعَظٌ ومُنتهىً.
قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بالغةٌ} قال الزجّاج: هي مرفوعة لأنها بدل من ما فالمعنى: ولقد جاءهم حكمةٌ بالغةٌ وإن شئت رفعتهما بإضمار: هو حكمة بالغة. وما في قوله: {فما تُغْنِ النُّذُرُ} جائز أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أيّ شيء تُغْني النُّذُر؟! وجائز أن يكون نفياً، على معنى، فليست تُغْني النُّذُر. قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن وهو حِكْمة تامَّة قد بلغت الغاية، فما تُغُني النُّذُر إذا لم يؤمِنوا؟!.


{فَتَولَّ عنهم} قال الزجّاج: هذا وقف التمام، و{يومَ} منصوب بقوله: {يخرُجون من الأجداث} وقال مقاتل: فتولَّ عنهم إلى يوم {يَدْعُ الدّاعي} أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب؛ وافقه أبو جعفر، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين. و{الداعي}: إِسرافيل ينفُخ النفخة الثانية {إلى شيءٍ نُكُرٍ} وقرأ ابن كثير: {نُكْرٍ} خفيفة؛ أي: إلى أمر فظيع. وقال مقاتل: {نكُر} بمعنى المُنْكَر، وهو القيامة، وإنما يُنْكِرونه إعظاماً له. والتَّولِّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف.
قوله تعالى: {خُشَّعاً أبصارُهم} قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: {خُشَّعاً} بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {خاشِعاً} بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزجاج: المعنى: يخرُجون خُشَّعاً، و{خاشعاً} منصوب على الحال، وقرأ ابن مسعود: {خاشعةً}؛ ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدَّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع؛ تقول: مررت بشُبّانٍ حَسَنٍ أوجُههم، وحِسانٍ أوجُههم، وحَسَنةٍ أوجُههم، قال الشاعر:
وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ *** مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث: القبور، وإنما شبَّههم بالجراد المنتشِر، لأن الجراد لا جِهةَ له يَقْصِدها، فهو أبداً مختلف بعضه في بعض، فهم يخرُجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يَقْصِدها. والدّاعي: إِسرافيل. وقد أثبت ياء {الدّاعي} في الحالين ابن كثير، ويعقوب؛ تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو؛ والباقون بحذفها في الحالين. وقد بيَّنّا معنى {مُهْطِعين} في سورة [إبراهيم: 43] والعَسِر: الصَّعب الشَّديد.


قوله تعالى: {كذَّبتْ قَبْلَهم} أي: قبل أهل مكة {قومُ نُوح فكذَّبوا عَبْدَنا} نوحاً {وقالوا مجنونٌ وازْدُجِرَ} قال أبو عبيدة: افتُعِل مِن زُجِر. قال المفسرون: زجروه عن مقالته {فدعا} عليهم نوح {ربَّه} ب {أنِّي مغلوبٌ فانْتَصر} أي: فانتَقِم لي ممَّن كذَّبني. قال الزَّجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي: {إنِّي} بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إِرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب؛ ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربَّه ب {أنِّي مغلوب}.
قوله تعالى: {ففَتَحْنا أبوابَ السماء} قرأ ابن عامر: {ففَتَّحْنا} بالتشديد. فأما المُنهمِر، فقال ابن قتيبة: هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يُقال: هَمَر الرجلُ: إذا أكثر من الكلام وأسرع. وروى عليٌّ رضي الله عنه أن أبواب السماء فُتحت بالماء من المَجَرَّة، وهي شَرَجُ السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في [هود: 44] أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: {ففَتَحْنا أبوابَ السماء} قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً، وفُجِّرت الأرض من تحتهم عيوناً أربعين يوماً.
{فالتقى الماءُ} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: {المآءان} بهمزة وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود: {المايانِ} بياءٍ وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ الحسن، وأبو عمران: {الماوانِ} بواو وألف وكسر النون. قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء.
قوله تعالى: {على أَمْرٍ قد قُدِرَ} فيه قولان:
أحدهما: كان قَدْر ماء السماء كقَدْر ماء الأرض، قاله مقاتل.
والثاني: قد قُدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج. فيكون المعنى: على أمر قد قُضي عليهم، وهو الغرق.
قوله تعالى: {وحَمَلْناه} يعني نوحاً {على ذات ألواحٍ ودُسُرٍ} قال الزجاج: أي: على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ. قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت. وفي الدُّسُر أربعة أقوال.
أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد، وقال الزجاج: الدُّسُر: المسامير والشُّرُط التي تُشَدِّ بها الألواح، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه. والدُّسُر: واحدها دِسار، نحو حِمار، وحُمُر.
والثاني: أنه صَدْر السفينة، سُمِّي بذلك لأنه يَدْسُر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة؛ ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه.
والثالث: أن الدُّسُر: أضلاع السفينة، قاله مجاهد.
والرابع: أن الدُّسُر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك.
قوله تعالى: {تَجْري بأعيْننا} أي: بمَنْظَرٍ ومرأىً مِنّا {جزاءً} قال الفراء: فعَلْنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كُفِر به.
وفي المراد ب {مَنْ} ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الله عز وجل، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكُفرهم به.
والثاني: أنه نوحٌ كُفِر به وجُحِد أمْرُه، قاله الفراء.
والثالث: أن {مَنْ} بمعنى ما؛ فالمعنى: جزاءً لِما كان كُفِر من نِعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة: {لِمَنْ كان كَفَر} بفتح الكاف والفاء.
قوله تعالى: {ولقد تَرَكْناها} في المشار إليها قولان:
أحدهما: أَنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة.
والثاني: أنها الفَعْلة، فالمعنى: تركنا هذه الفَعْلة وأمر سفينة نوح آية، أي: علامة ليُعتبر بها، {فهل مِنْ مُدَّكِرٍ} وأصله مُدتكِر، فأبدلت التاء دالاً على ما بيَّنّا في قوله: {وادَّكَرَ بعدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] قال ابن قتيبة: أصله: مذْتَكِر، فأْدغمت التاء في الذال، ثم قُلبت دالاً مشدَّدة. قال المفسرون: والمعنى: هل من متذكِّر يعتبر بذلك؟ {فكيف كان عذابي ونُذُرِ} وفي هذه السورة {ونُذُر} ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين، وقوله: {فكيف كان عذابي} استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. قال ابن قتيبة: والنُّذُر هاهنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النَّكير بمعنى الإنكار. قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة.
{ولقد يسَّرنا القرآنَ} أي: سهَّلْناه {للذِّكر} أي: للحِفظ والقراءة {فهل من مُدَّكِرٍ} أي: من ذاكرٍ يذكره ويقرؤه؛ والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلُّمه قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يُقرأ كُلُّه ظاهراً إلاّ القرآن. وأمّا الرِّيح الصَّرصر، فقد ذكرناها في [حم السجدة: 160].
قوله تعالى: {في يومِ نَحْسٍ مُستمرٍّ} قرأ الحسن: {في يومٍ} بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنَّحْس. والمُستمِّر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنُحوسه. وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقيل: إنه كان يومَ أربعاء في آخر الشهر.
{تَنْزِعُ النّاسَ} أي: تقلعهُم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدُقّ رقابَهم فتُبِين الرّأسَ عن الجسد، ف {كأنهم أعجاز نَخْلٍ} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن السميفع: {أعْجُزُ نَخْلٍ} برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: {كأنَّهم عُجُز نخل} بضم العين والجيم. ومعنى الكلام: كأنهم أصول {نَخلٍ مُنْقَعِرٍ} أَي: مُنْقَلِع. وقال الفراء: المُنْقَعِر: المُنْصَرِع من النَّخْل. قال ابن قتيبة: يقال: قَعَرْتُه فانْقَعَر، أي قلعته فسقط. قال أبو عبيدة: والنَّخْل يُذَكَّر ويؤنَّث، فهذه الآية على لغة من ذكَّر، وقوله: {أعجازُ نَخْلٍ خاويةٍ} [الحاقة: 8] على لغة من أنَّث. وقال مقاتل: شبَّههم حين وقعوا من شِدَّة العذاب بالنَّخْل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبَّههم بالنَّخْل لِطُولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً.

1 | 2 | 3